التصوُّف العقلاني

 

 

التصوُّف العقلاني

نحو نهج روحي- إصلاحي جديد

 

 

                                                                                                               د. جعفر نجم نصر*

 

                                                                                   *أستاذ الأنثروبولوجيا التطبيقية في كلية الآداب بجامعة المستنصريَّة – العراق.

 

لقد تشكلت عن التصوف صورة نمطية سلبية لم تكن وليدة هذا العصر بل ترافقت معه من عصور سالفة، ارتبطت بنشأته  منذُ أواخر القرن الثاني للهجرة وكانت هذه الصورة تشير الى الحمولات السلبية الآتية:

أولاً:- أنه نهج روحي/ إنعزالي لا يعبأ بمشكلات الواقع ويفر إلى عالم غيبي خاص به، ينعكس في لغة دينية ورموز وإشارات وتقنيات روحية خاصة.

ثانياً:- أنه يقوم على المنهج الكشفي/ الذوقي في استحصال المعرفة أي أنه لا يعد العقل مصدراً للمعرفة بل يعد الإلهامات أو الفيوضات الإلهية مصدراً جوهرياً له .

ثالثاً:- أنه تحول إلى تنظيمات/ هرمية – تسلسلية (مغلقة) قائم على دائرة ذات وعي ديني وتجارب ذوقية خاصة قائمة على آليات تواصلية خاصة (الشيخ والمريدين) وهم بذلك دخلوا في هيكل تنظيمي غائب بنحو كبير عن المجريات المجتمعية.

وترسخت هذه القضايا على نحو كبير منذُ أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، وامتدت إلى يومنا، وإن تخللت ذلك مواقف صوفية تنمُّ عن وعي وجودي لمواجهة تحديات الواقع تمثلت ببعض الزعامات والحركات الصوفية التي واجهت المد الاستعماري أواخر القرن التاسع عشر، أو التي واجهت المد الحداثوي الجارف (كما فعل سعيد النورسي) في تركيا؛ ولكن رغم ذلك، ورغم الجهود الإصلاحية لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا لمواجهة التنظيمات الصوفية ومحاولة إصلاح مقولاتها واعتقاداتها وتشكيلاتها الطرقية إلا أن التصوف انتهى إلى احضان الطقوسية المفرطة وتحول مظهراً أساسياً من مظاهر ما عرف اصطلاحاً بإسم (الإسلام الشعبي) القائم على محورية الولي والكرنفالات الاحتفالية.

ولكن هذا الأمر لا يعني أن الإصلاحات الداخلية للتصوف قد بدأت متأخرة إذ رافقت التصوف منذ أطواره ومراحله الأولى ملاحظات إصلاحية له تبدت في مراجعات الحارث المحاسبي والإمام الغزالي والشيخ محي الدين ابن عربي وغيرهم الكثير، والذين حاولوا جاهدين إعادة مكانة العقل في سياقات التصوف الفلسفي والاجتماعي.

ولكن ما صلة التصوف بالإصلاح الديني؟ وهل يمتلك الأدوات أو التقنيات المعرفية على الإصلاح؟ وكيف ذلك وما زالت سمة تعطيل العقل كمصدر للمعرفة غلبت عليه ؟ والغصلاح يحتاج إلى أدوات ومناهج عصرية لإعادة النظر في الإرث الإسلامي أو سائر النصوص الدينية ؟ .

بعبارة أخرى، إذا كان العالم الإسلامي شهد ويشهد مشاريع إصلاحية مستمرة بخصوص الإسلام و(النصوص وإعادة تأويلها)، أو (الشريعة وإعادة تطويرها)، فلماذا الركون على التصوف، لعل الإجابة عن كل ذلك تنطلق من فكرة جوهرية نعتقد بها وهي: أن أي عملية للإصلاح أو التجديد الديني يجب أن تتم من داخل دائرة الإسلام ذاتها، ولكن بوسائط منهجية عصرية، وأن أي مشروع يأتي بأفكار من خارج تلك الدائرة أو يقدم بديلاً كلياً عن الإسلام، فلا أعتقد أن له قيمة، ومصيره الفشل المحتوم، لأن تجاوز الإسلام هو تجاوز لمعتقدات المجتمع وإرثه الروحي الجوهري بل هي عملية استخفاف بما يؤمن به افراد المجتمع.

وللتصوف قابلية على منح مساحة واسعة لإحداث إصلاحات دينية متعددة لأنه يتضمن الإمكانيات المعرفية والمنهجية الآتية:

أولاً:- انه يسمح بإمكانية تجاوز ظاهرية الشريعة، والعمل على تطويرها وتجديدها من الداخل عبر اعادة النظر في الكثير من التشريعات التي تصطدم بالمتغيرات المحلية والعالمية المتسارعة ولعل مشروع الاستاذ محمود محمد طه خير من يمثل ذلك ، فضلاً عن أطروحات محمد اقبال التي فتحت افق جديدة في دلالات الخاتمية .

ثانياً:- يسمح بالإيمان بالتعددية الدينية والعمل على تطويرها، وذلك لأنه يؤمن بالآخر أياً كان، ويعتقد أن كل الأديان هي مظاهر متعددة مختلفة ثقافياً، اجتماعياً لجوهر واحد، وهذه المسألة تسمح باستيعاب المختلف أو المغاير دينياً أياً كانت عقيدته.

ثالثاً:- يسمح بإنتاج فضاء أخلاقي كوني لا يقيم وزناً لتصورات الفقهاء  التي انشغلت بقيم محلية مرتكزة على طهارة الجسد أكثر من الاهتمام بأخلاق كونية مرتكزة على مركزية الانسان وقيمته الوجودية أياً كان انتمائه أو عرقه أو جغرافيته؛ وهذه المسألة تفتح أفقاً نحو مرونة التواصل الاجتماعي المحلي والكوني على حدِ سواء.

ولكن إذا كانت هذه المرتكزات الجوهرية التي يؤمن بها التصوف والتي تؤشر على أفق عقلنة واضح، لأنها تعيد سطوة الإنسان ومركزيته الوجودية، وهذا عين ما أراده عصر الأنوار (العقلاني). إلا أن العقلنة أو إمكانية وجود تصوف عقلاني تحتاج إلى برهنه أو تأكيد علمي لا يقبل اللبس !؟ .

إن هذه المسألة يمكن معالجتها على النحو الآتي: استناداً إلى التخصصات العلمية الآتية : علم اجتماع المعرفة وأنثروبولوجيا الدين وعلم اجتماع الدين، لا يوجد شيء اسمه عقلانية واحدة مركزية أو معايير أو وأقيسة واحدة للعقلانية. ففي ظل التعددية الثقافية والدينية والحضارية لكافة المجتمعات نجد أن أطروحات هذه التخصصات أكدت الآتي:

أولاً:- اكد علم اجتماع المعرفة بل واعترف بتعدد العقلانيات وبحسب تعدد المجتمعات من ليفي برويل ورؤيته الخاصة حول المجتمعات البدائية مروراً بدور كهايم وخصوصية كل عقل جمعي بحسب المجتمعات، وماكس شيلر الذي رفض التنظيرات الوضعية والماركسية ، واوضح ان قانون المراحل الثلاث لوكست كونت ليس دقيقاً ولاينطبق على كل المجتمعات، اذ بالنسبة له تتعدد العقلانيات : دينية، صوفية ، وعلمية ، وتقنية … واكد على الاطروحة ذاتها كارل مانهايم وفلفريتو باريتو كذلك .

ثانياً:- ان العقلانية الغربية ليست معياراً كونياً بل إن الذي يقول بذلك إنما هو يؤكد على مركزية الحضارة الغربية وحداثتها من دون سواها، ويقفز على الإرث الإنساني الهائل لكل المجتمعات، وبذلك فإنه يعتمد الصورة النمطية عن ذاته وعن الآخر بحسب تصورات و انتقادات إدوارد سعيد، وفي الوقت عينه إن الاعتقاد بتلك العقلانية الغربية وحسب إنما يدلل على التغاضي المستمر عن الجهود النقدية لاتجاهات معرفية هائلة أبرزها (مدرسة فرانكفورت) وعصر ما بعد الحداثة وتوجهاته النقدية.

ثالثاً:- إن رائد العقلانية الغربية المعروف (كانط) فرَّق بين العقل المحض أو الخالص الباحث عن المعرفة بالتسلل المعروف (الحسّ، الذهن، العقل)، وانتهى إلى أن هذا العقل خاص بقضايا محددة ولكنه إزاء قضايا أخرى نحتاج إلى عقلانية أخرى سمَّاها بـ (العقل العلمي) والتي تتعامل مع قضايا  ميتافيزيقية خالصة (الخالق ، خلود الروح …. إلخ ).

رابعاً:- إن النظر في عقلانية التصوف هو نظر إلى المجال التطبيقي (التدين)، كما يهتم بها المتخصصون في علم اجتماع الدين، أي الاهتمام بالجانب السلوكي/ الممارساتي /  وليس بجانب المعرفة الذوقية، التي لم تعد موجودة بسبب هذا التوجه العقلاني.

تأسيساً على ما تقدَّم كله، ألا يحق لنا القول بإمكانية قيام تصوف عقلاني، استناداً إلى تلك البراهين التي تؤكد إمكانية قيام عقلانيات متعددة؛ واستناداً إلى تقنياته الإصلاحية المتعددة الخاصة بـ الشريعة / التعددية الدينية / النهج الأخلاقي/ الكوني (مركزية الإنسان). هذه تصورات أولية نحو ذلك الأفق الروحي/ الإصلاحي الجديد (التصوف العقلاني) .

 

 

 

شاهد أيضاً

حين يصبح “الدازاين” حرًّا في مواجهة الموت

حين يصبح “الدازاين” حرًّا في مواجهة الموت استقراء الموت في كتاب هايدغر “الكينونة والزمان” مارك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *