البُعد الإنقاذي للعرفان
د. إدريس هاني
لم یکن التصوف والعرفان النظري حادثاً جُزافياً فی تاریخ الأفکار والتدین الإسلامي، بل کان استجابة تاریخیة لتحد کبیر وکحاجة مُلحّة لتراجع الروحانیة، بفعل تحجّر الفقه بمعنيیه الأکبري والأصغري. کان العرفان استجابه لهذا التحدي، والذي استطاع أن یحتوی کل أشکال اختزال الشریعة في صور الأحکام و رسومها من دوره استحضار المحتوی الروحي للإسلام. کان التصوف و العرفان محاولة مبکرة لاحتواء التطرّفات وإنقاذ المدارك الإسلامیة التاریخیة من عنف الخطاب و ظاهر المعنی، لیفتح الطریق أمام تأویل ما لم یكن من حسبان المعنی، لیفتح الطریق أمام تأویل ما لم یکن من حساب المعنی، عبر منح الاعتبار لآخر المعنی الذي تنطوی علیه بواطن النصوص.
کان السلوك و طلب الكمالات والریاضات الروحیة بدیلاً عن التکفیر، وتکریساً للسلام، وتعزیزاً للتراحم و التعارف الذي حافظ علی النسیج المجتمعي. کما استطاع العرفان النظري تحریر العقل المسلم من فوارق التکلّم وتنابذ التأویلات، لصالح رؤیة توحیدیة تعتمد علی السلوك والعلم الحضوري وبرهان الصدیقین.
وکانت موجة التصوف والروحانیة ظاهرته في الأمم الأخری علی اختلاف أدیانها، وذلك نتیجة طغیان النزعات المادیة وانحسار الروحانیة الذي طبع الحضارة المعاصرة، مما کان یؤذن بانحطاط الغرب الذي لم یخفف من غوائله نداءات اللّاهوت وانبعاث فلسفات الأخلاق، فلا حدود لطغیان النزعة المادیة، وهو ما یجعل العالم یقترب من حالة انهیار وشیکة تتطلب عودة النزعة الصوفیة للعالم بأسره.
یقدم العرفان النظري والعملي آفاقاً أخری، لا تقف عند احتواء التطرفات في الفکر والعمل فحسب، بل یقدم مشروع إنقاذ حضاري لعالم، فقد الإنسان فیه أهم مقوم من مقومات البقاء، لأنه بات یعاین مشکلة انقلاب الإلهیة الجماعیة، في علام یسود کائن لیس له من حظ أنطولوجی سوی ما أسمیه الأونطو- قیاسي onto-metrie کائن یقع تحت الأنسان العاقل
إنسان الحضارة البدیلة، هو إنسان عارف وعرفاني، سالك نحو الکمالات، آبي للنزعة الهتزالیة، إنسان یمنح للروح مکانتها وینطلق من حصیلة الترکیب الخلاق للخیال والعقل، عارفاً باللّه وبالنفس وبالعالم، إذ لاسلام لعالم فاقد للروحانیة، ولا استقرار للنوع في ظل نزعات مادیة، ولا یوجد إمکان لخرافة مجتمع الرفاهیة إلّا مجتمع الإنسان العرفاني، بغنی الروح ورفاهیتها.
إن الحداثة تسلمت مصیر الإنسان للاقتصاد السیاسي، ولم تضع ضمن هذه الأجندة حاجة الإنسان والحضارة الإنسانیة إلی الکمالات الروحیة، وقد بات الیوم هذا النداء مشترکاً، وهو الإحساس بانسدادت الحضارة المادیة، وأن نهایة التاریخ والإنسان الأخیر، إما أن یکون عرفانیاً أو لا یکون.