في مثلث الفكر اليوناني العربسلامي المسيحي*
الدكتور علي زيعور
إن “الذمة العالمية للفلسفة والعلم” مدينة بالكثير إلى ابن سينا الذي احتفل العالم، وتلك الذمة، بمرور ألف عام على ولادته، في السنة 1980م. لقد أدى ذلك العبقريّ خدمات جلّى طوّرت الثقافة، والمعارف وساهمت في اغناء الوعي الفلسفي، والدفاع عن العقل، واكتساب خطوات مديدة في سيطرة البشري العلمية والطبية على الواقع .
سعت جامعاتنا إلى ردّ الجميل لذلك الرجل الكبير، فأعادت تحقيق بعض مؤلفاته، وأعادت قراءته بطريقة جديدة ظهر عبرها أكبر بكثير من أن يكون مجرد معجب أو مجرد منتفع من سابقين؛ وسطعت مجلوباته في ميدان الطب، أي حيث اكتشف أنه كان سباقًا، ومخترعًا، ومؤسسًا أو بعض تجديداته في مجالات منها: الشعر، والأخلاق، والتفسير القرآني، والنظر إلى الوجود والمادة، والنفس بخاصة والتأويلانية، والرمازة (الرمزيات)، والحلميات…
1 – فيلسوف الوجود .قيمته الكبرى داخل الفلسفة المسيحية المعاصرة
إنّ أخذ ابن سينا على أنه فيلسوف الوجود لهو من النقاط الأساسية التي ينبغي الإلحاح عليها في دراسته، كما في تدريس فلسفته. لن نتكلم، هنا، بتفصيل على تلك الموضوعة التي ندر أن نجدها في كتبنا التدريسية العربية. فهذه الأخيرة، ما تزال تقدم فلسفة ابن سينا للطلاب على أنها بحث في علم الملائكة، أو نقل لفكر يوناني، أو مذهب كوسمولوجيّ، ومزعومة في الفيض والإشراق… ذلك ما ينفّر منها. العكس قد يحصل إذا شددنا على النواحي الباقية، المقبولة اليوم، منها. من تلك فكرة ترى ابن سينا فيلسوف الوجود. ودارسو الفلسفة الوسيطية يعرفون قيمة ذلك عند توما الأكويني، وعند ابن سينا عبر تأثيره في الأكويني.كذلك فإن الحركة الفلسفية المسيحية المعاصرة، أي التوأمية الجديدة، تضعه هو وأرسطو في صلبها ونسغها. وتتغذى بالكثير من منطلقاته الفلسفية ونظره إلى الوجود أو الأسيات. مع ذلك ما زلنا نرى الكثيرين الذين، بدلًا من الوقوف مطولًا عند الموضوعة التي تبين أن الفلسفة العربية شديدة الصلة بالفلسفة الأوروبية الوسيطة ومن ثم بالفلسفة المعاصرة أيضًا، يقفزون إلى تفسير ابن سينا تفسيرا باطنيًا. ويرى آخرون في ابن سينا حكيمًا صوفيًا، مثاليًا. وعلى هذا يصبح فيلسوفنا عندهم، عرفانيًا، غنوصيًا، متصوفًا. بذلك، فإنّ علم الحروف، والرموز، والأسرار، والجفر تصبح كلها عوالم الفيلسوف الذي، في نظرنا، شدّ المنطق الأرسطي صوب التجريب، والمنطق الصوري صوب مناهج البحث الموضوعي. بعبارة أخرى،كان يميل أغلبية دارسي ابن سينا إلى الإلحاح على اهتمامه بعلم الحروف، بالرموز والجوانيات، بالفيض والإشراق، بعوالم الملائكة والأفلاك، وما إلى ذلك… بل وفي دراسة علم النفس السيناوي لا نلاحظ أن تلك الدراسات الناقصة تلحّ على إظهار الجديد والقوي والباقي، بقدر ما تلحّ على مفاهيم مثل النفس الكلية، وهبوط النفس، والحنين إلى الوطن السماوي الأصلي، إلخ… صار الأفضل إلينا، شدّ الانتباه إلى عمليات التفكير في علم النفس السيناوي، إلى القوى النفسية، إلى نقد عوامل إضآل دور العقل الفردي وجهد الأنا في التفكير على حساب دور العقل الفعّال… بذلك نقدم للقارىء، اليوم، الموضوعة المستساغة التي تدعو لإعمال الذهن، لحب الفلسفة، لتذوّق اللذة الفلسفية، أو أقلّه، لجعل الفلسفة الإسلامية موضوعات غير منفّرة، غير هادفة لتكوين فكرانية صوفية، وأخوذ غيبية للإنسان وخارج الواقع أو المجتمع.
2 – الفلسفة المشرقية السيناوية، نزعتها للتأييس المستقل
من الشائع أن الكلمة القاطعة لم تلفظ بعد في تلك الفلسفة. إنّ ابن سينا، في اعتقادنا، سعى لاستكشاف قواعد المنهج التجريبي، ولشدّ القياس والبرهان المنطقي باتجاه إمكانية الانتفاع منها في البحث العمليّ ودراسة العينيّ والظواهر. بذلك لربما تكون الفلسفة المشرقيّة (وليس: المَـشرقية) جنوحًا من ابن سينانحو العلوم التجريبة، وتجديد مناهجها. لقد استوعب ابن سينا المنطق اليوناني، والنظر الاستنباطي، وصاغهما بثوب رائع وتنقيح وتجديد. لكنه لم يكتفي بذلك، لقد دعا أيضًا إلى بناء المنهج التجريبي، وإلى غرس العقل في حراثة الوقائع.
يودّ بعض الدارسين، المنطلقين من فهم خاص وقراءة معيّنة للفلسفة العربية الإسلامية، أن لا يرى في الفلسفة المشرقية، الفلسفة النابعة من بلاد الشرق والرانية إلى الاستقلال بل وأيضًا للتفوق على الفلسفة المشّائية اليونانية، إلا نظرات صوفية، وتصورات حدسية، وإلهيات أو عرفانيات صرفة. وفي رأينا، لعل الحكمة المشرقية السيناوية لم تنضج لكونها استباقية، وسابقة لعصرها والمعارف أنذاك. لذا بقيت أمنية عند صاحبها، ونزعة للاستقلال الفلسفي أو لبناء فكري فلسفي مشرقي الموطن والمقصد والمنهج. فقد وعد ابن سينا، في حالات عديدة، أن يعطي مذهبًا فلسفيًا أصيلًا ليس هو شرقيًا ولا غربيًا، أي غير مستمد من العرفانيات السائدة المنقولة، ولا من الفكر الاستنباطي “الغربي”. ولعل ذلك الاتجاه الفلسفي الخلاق، الباحث عن التوكيد الذاتي وتكوين الشخصية الفكرية الابتكارية واللاإعتمادية، ما يزال حتى اليوم اتجاهًا مؤثرًا وشديد التملق، والحظوة داخل الخطاب الفلسفي العربي الإسلامي.
لم يف ابن سينا بوعده ذاك، لعله لم يستطع لضيق وقته، أو الانشغال، أو بسبب العمر القصير. ادّعى أنه سينفّذ الوعد غير مرة، وقدّم أسبابا منها ضياع كتبه. ووعد أيضا بأنه سيجدد في الشعر، ومن السوي أن نصدّقه. أما الأهم فهو، حتى وإن لم يخرج إلى الملأ، وعوده بالتجديد، رغبته الصريحة تلك التي تنمّ عن شعوره بضغط الفكر الأجنبي، اليوناني خصوصًا، وبوجوب السير إلى التحقيق الذاتي ورفض الإكراهات الفكرية أو الانتماء التبعيّ إلى فكر الآخرين .
3 – الفلسفة السياسية والنظر في المجتمع والاجتماع البشري (المسكوني)
تأتي آراء ابن سينا السياسية، وفي الفكر الاجتماعي وعلم المجتمعات، تتويجًا لأعماله في الفلسفة النظرية. فمذهبه الاجتماعي وفلسفته السياسية، مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بفكره النظري أو يقومان على أسس ذلك الفكر. يعني هذا أن الفهم السليم لفلسفة ابن سينا السياسية يقتضي دراسة الحكمة عنده في جانبيها الملتصقين: الحكمة النظرية، والحكمة العملية. والمدخل إلى السياسة يكون بولوج الحكمة النظرية، والفكر الاجتماعي استمرار للفكر النظري.
تأتي نظريته السياسية في ختام الإلهيات، أي عند القمة. والإلهيات تتويج لنظرياته في المعارف كلها، أي في شتى فروع الحكمة. فمثلًا نلاقي مذهبه السياسي في الشفاء معروضًا في الصفحات الأخيرة من الفصل الأخير[1]،من تلك الموسوعة الضخمة، وذات التأثير الضخم. يقال الأمر عينه عن ذلك المذهب عينه في كتاب النجاة[2]، الذي هو ملخص أو أشمولة موسوعية، بل إن الفروق قليلة، حتى في اللفظ أحيانًا، بين ما نلقاه في الشفاء، وما نلقاه في النجاة حول المجتمع أو العلم المدني أو الحكمة السياسية… ولعل اسم كلّ من تٌينك الموسوعتين في العلوم والفلسفة يوحي بمقصد مؤلفهما:كلّ اسم يرمي إلى تبيان رغبة ابن سينا في جعل ما كتبه، إنْ في الشفاء وإنْ في النجاة، شافيًا ومنْجيا في مجالات المنطق والإلهيات وبخاصة في المجال السياسي. ففكره السياسي، في كل من تينك الموسوعتين النظريتين، مقدّم كشاف أو كمنقذ السياسي[3].
كان ابن سينا، على الصعيد العملي، سياسيًا مؤثرًا[4] وأقضَ عليه التألم من التناحرات والتشتت للخلافة، وللدولة الإسلامية التي شاء لها أن تكون موحدة الإيدولوجية والعقيدة والشرعية. ومن المعبَر تماما أنه رنا، هنا أيضا، إلى الإستقلال حيال التراث السياسي الفلسفي الذي وجده ماثلًا في الفلسفة اليونانية، وحيال الحكمة السياسية الفارسية. لقد كان معجبًا بالتجربة السياسية الإسلامية، لكنه كان يعي مخاطر ما أصابها، وما ستقع فيه، من تفتت وانقسام في فلسفة السياسة أو في الفعل السياسي، أو في الخلافة القائمة التي أرادها موحّدة أو مؤيدة بشريعة واحدة قوية متآلفة. ويعزز زعمنا بأنه كان ميالًا إلى الاستقلال، في نظريته في الفعل السياسي، أنه في حين استعمل مصطلحات يونانية لنقد مجتمعه، في كتاب الحكمة العروضية[5] فإنه سوف يتخلى عن تلك المصطلحات في تقسيمه للمدن الموجودة في الإلهيات[6]… إلّا أنّ تقسيمه للمدن في الخطابة[7]، وهو قطاع اعتبر من قطاعات المنطق وأخذ بذلك الاعتبار، بقي مقتديًا بالتصنيف اليوناني الذي لفظه سريعًا الفعل السياسي العربي والنظرية السياسية العربية – الإسلامية.
4 – المذهب التربوي – النفساني عند ابن سينا .البريسونية السيناوية اللاتينية
يتناول ابن سينا التربوي (علم التربية، النظر التربوي) كقسم من سياسة المنزل، أو كقطاع من قطاعات الحكمة العملية التي تشتمل أغراضها على: الأخلاق وسياسة النفس، التدبير للعلائق العائلية أو الحكمة المنزلية، علم المدن أو العلم المدني أو السياسة المدنية. وهكذا فإن التربويات السيناوية عمل من أعمال الرجل في عائلته، أي مجمل من السلوكات والأفعال والتوجيهات التي يتولاها الأب والمعلم، البيت والكتّاب.
ينتمي عطاء ابن سينا في النظر التربوي إلى مدرسة الفلاسفة العربسلامية[8] المتميزة، لكن الشديدة التأثر والتداخل، عن المدرسة الفقهية التي ظهرت بداياتها مع القابسي وابن سحنون، أو التي يمثلها الغزالي، وابن جماعة، وزين الدين بن أحمد… نلاقي فكر ابن سينا، في علم النفس الولد وفي الطرائق التربوية، في الأرجوزة في الطب التي تبلغ 1326 بيتًا[9]. هنا يبدي ابن سينا آراءه في التعليم، والاعتناء بالطفل قبل وبعد ولادته، وينظم علائق الولد بأمه، وينبغيات الأهل تجاهه ويبسط قواعد ووصايا ترشد إلى حسن التعاملية وإلى حفظ الصحة… وفي كتاب القانون كان ابن سينا قد بسط الأوسع والأهم. أما كتاب السياسة المنزلية[10] احتوى على النظر العام إلى العملية التربوية، ففي هذه الرسالة عرض ابن سينا المتفق عليه عند التربويين المسلمين حول الطرائق في اكتساب المعرفة وتحصيل العلوم، وحول تصنيف العلوم وواجبات المعلم حيال المتعلم… لقد عالج وظائف المدرّس، وشروطه المهنية والأخلاقية، وفي تأديب الولد أي تعويده وإدماجه الاجتماعي عبر جعله يجتاف الآداب الشائعة والسلوكات السائدة. وتنتهي التربية السيناوية بأن تجعل الولد يكتسب مهنة، ويفرد رحله أي ينفصل عن أسرته ويكوّن خلية جديدة مستقلة خاصة به داخل المجتمع[11].
الهوامش:
[1] ابن سينا ،الإلهيات ،ج2 (تحقيق موسى ودنيا وزايد ،القاهرة ،1960)،صص435-455.
[2] ابن سينا ،النجاة ،القاهرة ،ط2،مطبعة الكردي ،1938.
[3] قا :علي زيعور ،”مذهب ابن سينا في تكوّن الدول ووظائفها … “، في: في التجربة الثالثة للذات العربية مع الفلسفة …(بيروت ،دار الأندلس ،1984)، صص 209 – 230.
[4] حول سيرته الذاتية ،التي أكملها تلميذه الجوجاني ، را : ابن أبي أصيبعة ، عيون … (بيروت ،دار الحياة ،1965) صص 437 -445، القفطي ، إخبار العلماء …(بيروت ،دار الآثار ،تصوير ، د.ت.) صص268-278 .
[5] را:ابن سينا ،كتاب المجموع أوالحكمة العروضية في معاني كتاب ريطوريقا (القاهرة ،تحقيق وشرح محمد سليم سالم ،1950) ص 42
[6] لإلهيات ،ج 2،ص 453.
[7] ابن سينا ،الخطابة (تحقيق محمد سليم سالم ، القاهرة ،1954) صص62-64.وهنا يتخلى ابن سينا عن نقده للسياسة القائمة الذي بسطه ايام شبابه في كتاب “كتاب المجموع ” .
[8] را: علي زيعور ، التربية وعلم النفس الولد في الذات العربية (بيروت ،دار الأندلس ،ط 1،1985 ) صص 239-270، أيضا : البرنسوية – السيناوية –اللاتينية .
[9] Jahier et noureddine، Anthologie de texts attributes، Avicenne،Alger 1960،
[10] للكتاب نشرات عديدة ،ربما كان أولها نشرة ل:شيخو ،بيروت ،مجلة المشرق 1902،صص968والما بعد .
[11] Zayour ،la theorie pedagojique et la psychologie de l`enfant chez Aviennce ،in dirasat 9،1981
__________________________
*نقلًا عن موقع” المعارف الحكمية – معهد الدراسات الدينية والفلسفية”.