أطروحة علم المبدأ عند المفكر اللبناني محمود حيدر
(التأسيس لميتافيزيقا جديدة)
بقلم: حازم رعد
(باحث في الفلسفة: من العراق)
هو لون من الدراسات التي تُعنى بالبحث عن سر الموجود الأول والذي اقترح تسميته بعلم “المبدأ”.
اشتغل الدكتور محمود حيدر “مفكِّر وأستاذ فلسفة ولاهوت لبناني”، على ابتكار نسق من الدراسات لا نقول إنه مكتمل بشكل تام بل هو في طور التأسيس للون من المعرفة معنية بدراسة “المبدأ”. فما هو هذا المبدأ، وعلى ماذا يتأسس، وماذا يستهدف؟ هذا ما سنحاول عرضه بشكل مقتضب في هذه المقالة التي هي قراءة في محاضرة ألقاها الدكتور محمود حيدر بالتعاون بين كلية الآداب في جامعة بغداد، والمجمع الفلسفي العربي.
حاصل الفكرة هي وجود عالم يتوسَّط عالم اللَّاهوت وعالم الإمكان يصطلح عليه بعالم العقل، وهو الذي أكَّدت عليه بعض الآثار والنصوص في الفكر الديني. فقد ورد أنَّ الله عزَّ وجلَّ لما خلق العقل قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، فقال تعالى: وعزَّتي وجلالي ما خلقت خلقًا هو أكرم علي منك، بك أثيب وبك أعاقب، وبك آخذ وبك أعطي.
إن هذا العالم الذي هو عالم العقل يتوسَّط عالمين في الصدور، أي صدور الموجودات من عالم اللَّاهوت إلى عالم الإمكان، فالذي تقرره الفلسفة الإسلامية هو عدم إمكان الصدور المباشر لعله في القابل وليس في الفاعل وهو الحق تعالى.
هذا العالم أطلق عليه الدكتور محمود حيدر “المبدأ”، أي انبثاق الموجودات يكون من هذا الفعل الصدوري “العقل الأول”، وعلى هذا الأساس يتوجب التأسيس إلى لون من الدراسات “ميتافيزيقا جديدة” تعنى بالحفر المعرفيِّ وتشريح هذا العالم “المبدأ”.
إذن، ليس معنى المبدأ في المقام هو أننا نقصد “الله” كما يعلم في الإلهيَّات، وإنما الموجود الأول الذي أبدعه الخالق “الجوهر” النومين الذي يضم جميع الموجودات. وبعبارة أوضح، هو العقل الأول “الذي نطقت الرايات الدينيَّة بأنه النور الأول”.
معنى ذلك أننا في بواكير الإعداد لمنهجيَّة جديدة تفتح أبوابًا ننفذ من خلالها إلى فهم المبدأ الموجود الأول بعدما صارت الميتافيزيقا بشكل عام “قد تم تحييدها” إلى حد ما من إعطاء رأي تام في ذلك، ليس قصورًا فيها وإنما القابل وهو المتلقي العام قد تأثَّر بمعطيات الحداثة وما بعدها التي أسَّست لإنهاء ماهو ميتافيزيقي على اعتبار أن ما هو ملموس هو معقول، وبالتالي كل ماهو غير ملموس غير معقول ولا يعوّل عليه، وهذه القاعدة هي التي أسست لعلم الظواهر، وخرجت بذلك عن سكة الميتافيزيقا والوجود. حتى هايدگر انتفض على المسار الذي يوصل إلى نسيان الكينونة، ولكن لا نجزم بأنه قصد بذلك نسيان الموجود الأول الذي نحن بصدد التنظير إليه كما يقارب ذلك الدكتور محمود حيدر.
نحن الآن ندخل في ميتافيزيقا أخرى هي استمرار للمسار الفلسفي الذي يبحث في الوجود “المبدأ”، أي تدبُّر معرفة الموجود الأول “النومين” الذي صدرت عنه الوجود برمته، وهذا العالم “العقل الأول” وهو مقام الصادر الأول “الحق المخلوق به” كما يسمّيه ابن عربي، وهو صادر بالكلمة والأمر المعبّر عنها في النص الديني [إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون] ويسمّيه باحثنا “ظهور بالكلمة”، وهو يقارب هذه الفكرة بقوله إن عملية “الانفجار الكوني الكبير” ما هي إلا توسعة وتشظية آثار الوجود لهذا الخلق الجديد الصادر الأول الذي هو توسط بين الله والعالم، وهذا الكائن هو وحدة وجود العالم فهو المنطقة الوجوديَّة الوسطى.
وهنا نسأل “كما يقول محمود حيدر” عن علاقة العقل الأداتي بالعقل القدسي، فهل إن هذا العقل ينحكم بالمقولات العشر، أم أن له قدرات أخرى يمكن استكشافها والوصول لها؟
هنا يضع الباحث عقلًا آخر يعتبر وسيطًا بين العقلين، وهو ما يسميه بالعقل الوحياني، وهو عالم الغيب الذي يتدبَّر أمر العقل القدسي الأول، وهو موضوع علم المبدأ، وهذا ما يؤسِّس لميتافيزيقا جديدة.
تحملنا مساعي الفلسفة الحديثة إلى تحويل الفلسفة إلى علم، ونحن نعلم أنها ليست علمًا يشبه العلوم، وإنما هي رؤية عن العالم ولون من الدراسات التي تقدم استفهامات وإجابات عن الوجود والأشياء، بمعنى أوضح، هي التفكير عقليًّا في الوجود والأشياء، وهذا الأمر داعٍ آخر لفتح منفسح فلسفي ميتافيزيقي جديد بمنهجية ورؤية مختلفة نوعًا ما تقدّم لنا رؤية وإجابات عن الوجود والعام المتعلق بالوجود الأول “المبدأ”، أي بحث علاقة النومين بالفينومين الذي أوجد النومين، وهذا العلم جامع بين الطبيعة والعلوم الإلهيَّة الأخرى، ولا انفصال بين هذين العقلين الأداتي الطبيعي والقدسي، والرابطة هنا هي العقل الوحياني، وهذا العقل هو الامتداد بينهما.
يعتقد الدكتور محمود حيدر أن هذا العلم يمنح الإنسان المعرفة بماهيته المتسامية، أو المتعالية، أي أنه يكشف عن كينونة الإنسان لذاته، ويصوّر لها قيمتها العليا كذات تمتدُّ إلى المبدأ وترتبط به، وهذا بدوره يجعلنا نستحضر الاشتراط السقراطي في معرفة الذات والكشف عنها ( أيها الإنسان إعرف نفسك)، وأهم خصيصة نتعرف عليها هنا هي معرفة المبدأ وطبيعة علاقة الذات به حتى نحقق المعرفة التامة بالذات. فالإنسان بحسب محمود حيدر ليس مجرَّد عقل مقولاتيٍّ إذ لا جدوى من هذا الإنسان لأنه سيصبح متماثلًا مع موجود آخر لا ميزة أو خصيصة تميزه عمَّا سواه، ونحن في علم المبدأ نفترض أن له تساميًا وتعاليًا يختلف عن الكائنات الأخرى حتى يسترجع ماهو مفقود في عالم الميتافيزيقا، وهذا ما نتقصَّده من رهان في هذا الفضاء، علم المبدأ .
إذن، إن غاية علم المبدأ هي اكتشاف المجهول في فضاء الميتافيزيقا، والمسكوت عنه في مقول العقل القدسي، وتظهير الإنسان بوصفه ذاتًا تتصل بذلك المبدأ، والأمر كله متعلق بالاشتياق والرغبة في الوصول إلى معرفة المبدأ.
يتحدث محمود حيدر عن نوع من “الهدنة” بين العقل المقولاتي ذي السلطة على الذات مع العقل الأول، هو من يتولَّى عمليَّة استشراف علم المبدأ، وهنا لابد من التحرر من كل الذاكرة المقولاتيَّة والحمولات الكبيرة التي أثرت العقل المقولاتي، وتصفير العقل من المسبقات كشرط أساسيٍّ للتعرف على علم المبدأ حتى نقارب معضلة الوجود موضوع الميتافيزيقا قديمًا وحديثًا.
باعتقادي، أن كل إسهام معرفيٍّ يثري ساحة الفكر، ويميط اللثام عن عوالم معرفيَّة جديدة تحدِّد إجابات، وتبدع حلولًا لمشكلات في العالم، هي في حقيقتها فعل واجب للفلسفة، وتعتبر خطوة في طريق اشتغالاتها لإثراء حياة الإنسان بالتدبُّر والحكمة، وأرى أنَّ التأسيس لميتافيزيقا جديدة عمليَّة جديرة بالاهتمام لأنها على أقل تقدير ستحرِّك العقل، وتثير مدفوناته، وتثرينا، وتقدم لنا نماذج فلسفيَّة وفكريَّة نجري على غرارها حواراتنا، وما العالم إلَّا فضاء تحكمه الأفكار كما يقول أوغست كونت.