الآخريَّة … وفلسفة الضيافة*
د. مصطفى النشَّار
لا شك في أن شمس الفلسفة قد أشرقت في المملكة العربية السعودية منذ فترة وجيزة، لكن يبدو أن عبدالله المطيري كان قد حشد قدراته وامتلك أدوات التفلسف قبل ذلك كثيراً، فالكتاب الذى بين يدي وهو تحت عنوان «فلسفة الآخرية– الآخر بين سارتر وليفيناس وبهجة الضيافة» يكشف عن ميلاد فيلسوف عربي حقيقي يناطح سارتر وليفيناس فى رؤيتهم للآخر بحثاً عن إضافة عربية تضاف للرؤية الغربية للعلاقة بين الأنا والآخر، والمعروف أن القضية قديمة قدم الفلسفة، لكنها اتخذت أبعاداً جديدة بعيدة عن الشمولية وهيمنة الذات على الآخر التى اتسمت بها الفلسفة الغربية طوال تاريخها، ففلسفة الآخرية المعاصرة تحاول الخروج من شرنقة منطق المعرفة العلمية والعقلانية التي تؤطر كل شيء في إطار المعلوم إلى فهم كل جديد من منظور أنه مختلف وجديد، هى فلسفة تحاول فتح حوار جديد مع الحياة ومع الآخر باعتباره جزءاً من الذات وليس غريباً عنها، إنها فلسفة تسعى إلى طرح سؤال الآخر وسؤال الأخلاق الغيرية من منظور جديد مساوق للظروف والواقع الجديد الذى فرضته الحربان العالميتان ما جعل التفاوت فى النظرة إلى الإنسان ومستقبله تفاوتاً يتراوح بين التفاؤل والتشاؤم وإن كان المشترك بين الاتجاهين المتضادين هو أن الأمر قد أصبح بيد الإنسان الفرد وحريته في اتخاذ القرار ومدى وعيه بذاته وما حوله. وهنا لعبت فلسفة هوسرل ومنهجه الفينومينولوجي دوراً كبيراً في التحرر من الدوجماطيقية الفلسفية التقليدية لتنطلق الفلسفات الجديدة وخاصة عند سارتر وليفيناس وهما النموذجان اللذان اختارهما المطيري فى دراسته للآخرية، تنطلق نحو توصيف فينومينولوجي للظواهر المعيشة مثل ظواهر الغثيان والقلق والخجل عند سارتر والأرق والاستمتاع عند ليفيناس، ذلك التوصيف الذى ألصق كلا الفيلسوفين بالحياة اليومية للبشر خلال التجربة الحية المعيشة للعلاقة بين الأنا والآخر.
ومن هنا انبثق اهتمام المطيري بفلسفة الضيافة، حيث مال بحسه وأخلاقياته العربية الأصيلة إلى التركيز على رؤية ليفيناس للضيافة، حيث ارتبطت الذاتية عند الأخير ولا تتحقق عنده إلا بالانطلاق بحرية فى العالم، وهذا الانطلاق وتلك الحرية لا تتحققان إلا بالاستجابة لنداء الآخر وتحمل مسئولية الذات إزاء هذا النداء، أن التحقق الأكبر للآخرية لا يبدو إلا فى الضيافة. وقد أبدع المطيري فى تحليل «الضيافة» معنى وأطرافاً وفضائل، فالضيافة «إعادة لرسم العلاقة بين الغرابة والعالم، تعمل على ارتخاء الزمن، هى عمل من التسلية والتنسية والمضيف الحقيقى يخلق عالماً جديداً ينسى فيه الضيف العالم الخارجى ولو لشىء من الوقت، إنها اشتغال على الزمان كما هى اشتغال على المكان، وهذا عالم كامل، مكانياً الضيافة إشاعة للأرض من جديد، وزمانياً إشاعة للمستقبل للجميع», الضيافة عند المطيري عالم كامل جسدياً ومعنوياً، فهي تغذية للجسد كما هى للروح، إنها اتصال متعدد المستويات بالقداسة في العالم، فهي ممارسة للتقديس ودخول للذات في العالم باعتبارها كائناً محدوداً ومستقبلاً ومتطلعاً للخارج انتظاراً للضيف أياً كان، وهى تواضع وهي تذكير بالمتناهي المرحب بالآخر، إن الضيافة نداء للقداسة في العالم وترحيب بالمقدس باعتبارها ترحيباً بالآخر، إنها حالة من السلم مهما كنا فى عالم الحرب، إنها مستشفى العلاقات الإنسانية، فالأصل اللغوى لهما واحد فى اللغة الإنجليزية.. وقد ختم المطيرى كتابه بالحديث عن بهجة الضيافة واصفاً إياها من خلال فرحة المضيف قبل وأثناء استقبال الضيف والتحولات الجذرية فى الشعور والوجدان ظاهراً وباطناً، فيزيائياً وبيولوجياً، إنها بهجة تظهر فيها ومعها كل الأشياء والطبيعة بمظهر جديد، إنها بهجة الاستمتاع بالآخر ومعه، إن البهجة ليست غاية الضيافة بقدر ما هى شرط ضرورى لتحقيقها. لقد طوف بنا المطيري عبر أكثر من أربعمائة صفحة مرتكزاً على اشتباكه مع الفلسفة الغربية عموماً، وفلسفة سارتر ولفينياس وهوسرل خصوصاً، لينتهي عند رؤيته المثالية لفلسفة الضيافة، وكأننا عدنا إلى حياة العرب الأوائل الذين كانوا ينتظرون ويستمتعون حقاً بالضيافة، وقد تجاهل ولا أدري عن قصد أم بدون قصد ما جلبته علينا هذه الرؤية المثالية للضيافة وللآخر والترحيب به من ويلات سواء في عصر الاستعمار أو ما بعده، إن الآخر ليس فقط مواطنك السعودي أو العربي ولا حتى الآخر الغربي العادي، بل هو أيضاً الآخر العدو المتربص بك!! بل هو الذي لا يزال يحتل الأرض العربية وينتهك حرماتها كل يوم!!.
______________________
*نقلًا عن موقع صحيفة “الوفد” المصرية.