التوحيدي معالجًا فلسفيًا
د. مصطفى النشار
يزخر التراث الفلسفى العربى بنماذج رائعة من المعالجين الفلسفيين رغم أنهم لم يكونوا يدركون ما نسميه نحن الآن « العلاج بالفلسفة « أو «الاستشارة الفلسفية»، ولعل أبو حيان التوحيدى الذى عاش فى القرن الرابع الهجرى من أبرز النماذج التراثية الذين تعد كتاباتهم من وجهة نظرى مؤسسة لهذا الاتجاه التطبيقى فى مجال الفلسفة، فهو حتى وهو يتحدث فى مشكلات ميتافيزيقية بحتة ينزع إلى معالجتها من منظور الفلسفة التطبيقية.
ولعلى أتوقف فى هذا المقال عند تناوله لمشكلة الموت فهو لا يتناولها من البعد الميتافيزيقى الماورائى بقدر ما يتناولها فى كثير من كتاباته وخاصة فى كتابيه الشهيرين «المقابسات» و«الهوامل والشوامل» ورسائله المعروفة وخاصة «رسالة الحياة» من منظور معاناة الانسان فى الحياة وخاصة لدى أؤلئك البشر الذين يضيقون بحياتهم لدرجة اتخاذ قرار التخلص منها والانتحار!
ولعل من أروع ما كتب أبو حيان ما كتبه فى تحليل ظاهرة الانتحار، فهو يتساءل موجهًا السؤال ربما للمنتحر ذاته «من قتل هذا الانسان؟ فاذا قلنا: قتل نفسه، فالقاتل هو المقتول، أم القاتل غير المقتول؟، فإن كان أحدهما غير الآخر، فكيف تواصلا مع هذا الانفصال؟ وإن كان هذا ذاك، فكيف تفاصلا مع هذا الاتصال؟!، ويتساءل من جانب أخلاقى ونفسى: ترى ما السبب فى قتل الانسان نفسه عند اخفاق يتوالى عليه وفقر يحوج اليه وباب ينسد دون مطلبه ومأربه وعشق يضيق ذرعا به؟ وما الذى يرجو بما يأتى والى أى شىء ينحو فيما يقصد وينوى؟ وما الذى ينتصب أمامه ويستهلك حصافته ويذهله عن روح مألوفة ونفس معشوقة وحياة عزيزة؟ وما الذى يخلص إلى وهمه من العدم حتى يسلبه من قبضة الوجدان ويسلمه إلى صرف الحدثان (يقصد الليل والنهار)؟.. » لم سهُل الموت على المعذب مع علمه أن العدم لا حياة معه وما الشىء المنتصب لقلبه؟ وهل هذا الاختيار منه بعقل أو فساد مزاج؟ «، وواضح هنا مدى ما يحاول به التوحيدى اقناع المنتحر ألا يقدم على فعلته حيث يكشف له فى العبارات السابقة عن أن فى الانتحار – من الناحية النفسية والأخلاقية – تناقضا لأن المنتحر يريد بفعلته أن يشعر براحة الخلاص ونعمة التحرر ولكن الواقع أن النتيجة المترتبة على فعله هذا هى الحيلولة بينه وبين الشعور على الاطلاق مادامت الذات المقتولة لن تكون هناك للشعور بقيمة فعل الذات القاتلة!
لقد كان التوحيدى مؤمنا – رغم الكثير من صنوف الألم والشقاء والعذاب والحرمان التى عانى منها – أن الحياة ينبوع الفرح والهم واللذة والمعرفة والحس والحركة، لا تمام للإنسان إلا بها ولا قوام إلا معها، ودلل على ذلك بأن الانسان اذا نظر إلى الميت استوحش منه وتبرم به وعُجلّ به إلى القبر!
لقد كان التوحيدى أميل إلى عشق الحياة اللذيذة والاستمتاع بها رغم أنه عانى فيها ومنها معاناة شديدة، ومع ذلك فقد نظر إلى الموت – بعيدا عن الانتحار البغيض- على أنه معانق للحياة. ولله در هذا الرجل الذى عاندته الحياة فى آخر عمره لدرجة أن اضطرته إلى احراق بعض كتبه والقول «لقد غدا شبابى هرما من الفقر، والقبر عندى خير من الفقر»، والى القول كذلك «لقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنسا بالوحشة، قانعا بالوحدة، معتادا للصمت، ملازما للحيرة، محتملا للأذى، يائسا من جميع من ترى، متوقعا لما لابد من حلوله، فشمس العمر على شفا، وماء الحياة إلى نضوب، ونجم العيش إلى أفول»!
وعلى كل حال فانه فى اعتقادى قد عبر عن حال معظم المفكرين المخلصين لفكرهم وعملهم فى كل مكان وزمان حينما قال بصدق «إن غربته قد أصبحت غربة من لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان، فهو غائب حتى عن حضوره، غريب حتى عن بنى وطنه»!