عرش بلقيس: تجديد الخلق مع الأنفاس في “فصوص الحكم” لابن العربي

عرش بلقيس:

تجديد الخلق مع الأنفاس

في “فصوص الحكم” لابن العربي *

* هذه المقالة هي متن محاضرتي التي قدمتها من قبل في الملتقى الدولي الذي نظم في تلمسان في الجزائر خلال 18 الى 21 ديسمبر 2011، حول طرق الإيمان: أبو مدين – مشكاة على الدرب.

البروفسور ديلافير غورر

Prof.  Dilaver Gürer

 

تُعدُّ فكرة تجدد الأمثال نظريَّة هامة جدًّا في الوجود عند الصوفيين وعند الحركات الدينية والعلمية، وتسمّى تجديد الخلق أيضًا، وهذا المفهوم ظاهر في ثماني آيات من القرآن الكريم. بالنسبة إلى أهل هذه النظرية، الحق جل جنابه يخلق العالم أو الموجودات ولا يزال، كما أنَّ العالم أو الموجودات يُخلق ويُتجدّد دائمًا. أو بعبارة أخرى، إنَّه في خلق جديد في كل آن. وفي هذا المقال نتناول هذه المسألة في ضوء فكرة التخليق للشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي.

   كما هو معلوم، أنَّه عقب الرسالة التي أرسلها النبي سليمان (ع) إلى بلقيس ملكةِ سبأ بواسطة هدهد، جمعت بلقيس ملئَها وشاورتهم في الأمر، فقرروا أن يرسلوا وفدًا إلى سليمان (ع) مع هدايا قيمة، ولكنه لم يقبل الهدايا ورد الوفد قائلًا إنّ مقصده ليس هدايا أو أشياء أخرى بل أن يؤمن أهل سبأ بالله ورسوله، وإلا سيدخل في بلادهم مع جنوده وسيَهدمها. بعدئذٍ، سأل عن ملئه الذين هم في حضوره: مَن الذي يأتي بعرش بلقيس الذي تحدّث عنه هدهد من قبل. ﴿وَقَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ اَنَا اٰتِيكَ بِهِ قَبْلَ اَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَاِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ اَمينٌ. و قَالَ الَّذِى عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ اَنَا اٰتِيكَ بِهِ قَبْلَ اَنْ يَرْتَدَّ اِلَيْكَ طَرْفُكَ.﴾ فأتى به من دون توقف، اي استقر العرش عنده في آن واحد، رغم أنه كان في مملكةِ سبأ   جنوب جزيرة العرب بينما كان سليمان (ع) حينها في فلسطين. ﴿فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ اَهٰكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَاَنَّهُ هُوَ.﴾ [1]

الشيخ الأكبر ابن العربي يستنبط من هذه القصة حكمين مهمَّين، وهما:

1-                            أنّ علماء الناس أعلى مرتبة من علماء الجن، لأن العفريت قال إنه يأتي بعرش بلقيس قبل أن يقوم سليمان(ع) من مقامه، وقال العاصف أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك.

 2- الأهم من هذا بلا شك، هي نظرية تجدد الأمثال التي بني عليها نظام فكرة الشيخ الأكبر في الخلق. أي كيف أظهر عاصف عرش بلقيس الذي في بلدة بعيدة عند سليمان(ع) في آن واحد أو أقل منه؟ فالشيخ الأكبر يبين هذه المشكلة في الفقرة التالية بفكرته تجدد أمثال الأشياء أو بعبارة أخرى تجديد الخلق مع الأنفاس قائلًا:

ولم يكن عندنا باتحاد الزمان  انتقالٌ، وإنما كان إعدامٌ وإيجادٌ من حيث لا يَشعر أحد بذلك إلا مَن عرفه وهو قوله تعالى: ﴿بَلْ هُمْ فيِ لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ.[2] ولا يمسي عليهم وقت لا يرون فيه ما هم راءون له. وإذ كان هذا كما ذكرناه، فكان زمان عدمه (أعني عدم العرش) من مكانه عين وجوده عند سليمان، من تجديد الخلق  مع الأنفاس. ولا علم لأحد بهذا القدر، بل الإنسان لا يشعر به من نفْسه أنه في كل نفَس لا يكون ثم يكون. ولا تقل “ثُم” تقتضي المهلة، فليس ذلك بصحيح، وإنما “ثُم” تقتضي تقدم الرتبة العِلّية عند العرب في مواضع مخصوصة كقول الشاعر:

كهَزّ الرديني ثم اضطَرَبْ

وزمان الهزّ عينُ زمانِ اضطرابِ المهزوز بلا شك. وقد جاء بِثُمّ ولا مهلة. كذلك تجديد الخلق مع الأنفاس: زمان العدم زمانُ وجودِ المثِل كتجديد الأعراض في دليل الأشاعرة.

فإن مسألة حصول عرش بلقيس من أشكل المسائل إلا عند مَن عرف ما ذكرناه آنفًا في قصته. فلم يكن لعاصف من الفضل في ذلك إلا حصول التجديد في مجلس سليمان(ع)  . فما قطَعَ العرشُ مسافة، ولا زُويت له أرض ولا خرَقها لمن فهِم ما ذكرناه.[3]

ويقول القاشاني في هذا الآية: وذلك أن هذه الآية الكريمة كما يفهم منها بحسب ظاهر عبارتها ما نزلت لإثباته من حشر الأجساد، وتجديد الخلق في يوم المعاد، فكذا يفهم منها ما تشير اليه في مقتضى ذوق الكمان بلسان الخصوص المفهوم لأهل الله تعالى من تجديد الخلق مع الأنفاس، إن الكفار في لبس وشكٍّ من تجديد الخلق في يوم القيامة، فكذا أهل العذاب في لبس وشكٍّ من تجديد الخلق مع الأنفاس. [4]

من هنا، لا بد من أن نبحث كيفية التجدد في كل الموجودات منطلقًا من تجدد هذا العرش، وإن شاء الله بعد قليل سنرجع إلى هذا الموضوع، ولكن بادئ ذي بدء نريد أن نتحدث عن فكرة الخلق عند الشيخ الأكبر بإيجاز.

أولًا: ليس الخلق في نظر ابن العربي ايجادًا لشيء لا وجود له، فهذا مستحيل عقلًا وعملًا عنده، ولا هو فعل قامَ به الحقّ في زمنٍ مضى دفعةً واحدةً ثمّ انتهى منه، بل هو حركةٌ أزليةٌ دائمةٌ. عنها يَظهر الوجود في كل آن في ثوب جديد، وتتعاقبٍ عليه الصور التي لا تتناهي عدًّا من غير أن تزيد فيه أو تنقص منه شيئًا في جوهره وذاته. فالخلق بمعنى الإيجاد من العدم أو الابتداع على غير مثال سابق، والخالق بمعنى الموجد من العدم أو المبدع على غير مثال سابق، لا محلّ لهما في مذهبه.[5]

وكما هو معروف، يرى محي الدين ابن العربي الوجودَ هو الحقّ في مرتبة        الَّلاتعينيَّة، والموجودات التي نراها في هذا الكون عبارة من ظهور الحقّ مرتبةً فمرتبة وفيضانِه وتنزُّلاته. وفي عبارة أخرى، تتجلّى أسماءُ وصفاتُ الحق في العالم متماديةً ومستمرةً. فيمكن القول أنّه لا يوجَد عدمٌ (فساد) مطلقٌ أو موجودٌ (كونٌ) مطلقٌ في هذا العالم، كما أنّه ليس لها وجود مستقلّ. إنما الأشياء أو الخلق أو الكون هو مدةُ ظهورِ تجلياتِ الحق ذاتيةً كأمواج صفحاتها متتاليةً، وفي عبارة أخرى، هو مدة تغشّيه بالوجود.[6]

وفي شرح الموضوع يقول القيصري: إنّ ذاتِ الالهية لا تزول متجلية من حيث أسمائه وصفاته على أعيان العالم، وكما يقتضي بعض الأسماء وجودَ الأشياء، كذلك يقتضي بعضها عدمَه، وذلك كـ “المعيد” و”المميت”  و”القهّار” و”الواحد” و”الأحد” و”القابض” و”الرافع” و”الماحي” وأمثاله ذلك. وإن كان لبعض هذه الأسماء معانٍ أُخَر غير ما قلنا، لكن ليس منحصرًا فيها. فالحق تارة يتجلّى للأشياء بما يُظهرها وُيوجدها ويوصلها إلى كمالاتها، وتارة يتجلّى بما يُعدمها ويُخفيها. ولما كان الحق كل يوم (أي كل آن) في شأن،[7] وتحصيلُ الحاصل محالٌ، كان متجلّيًّا لها دائمًا بالأسماء المقتضيةُ للإيجاد فيوجدها.

ولما كانت ذاته تعالى مقتضيةٌ لشؤونه دائمًا، تكون تجلّياتُه دائمة وظهوراته مستمرة، وشأنه وتعيُّناته متعاقبة. إذًا، إنّ إيجادَ زمانِ أو آنِ تغشّىِ الأشياء وزمان إعدامَها واحد، ليس لها زمانان، بل في آن واحد.[8]

في هذه النقطة، تتقابل فكرة تجددِ الأمثال أو تجديدِ الخلق، لأنه ما في الخلق أي انقطاع، فهذه المتعاقبات تَتجَدَّد بنفسه دائمًا، والكون أو الوجود يوجَد ويُعدَم في آن واحد لا نهاية له. ويتكرر هذا الإيجاد الأزليّ وهذا الإعدام الأبديّ وهذا التجدد فى كل آن. ففى هذه الآن المعيّن، يَكتسي الأعيانُ والأوصاف بلا نهاية لها وفي الآن المتعاقب يُعدم كلُّ هذه الأعيان والأوصاف ويتغشّى بالعدم لأنْ يُقيم أو يُتجدّد.[9]

لأن الخالق عند ابن العربي، هو جوهرٌ أزليٌ أبديٌ يَظهر في كل آن في صورٍ ما لا يُحصى من الموجودات، فإذا ما اخْتفَت فيه تلك تجلّى في غيرها في اللحظة تليها. والمخلوق هو هذه الصور المتغيرة الفانية التي لا قوام لها في ذاتها: أو هي الأعراض التي تتعاقب على هذا الجوهر الثابت الدائم. فإذًا، الموجودات تُغير وتُجدَّد في كل آن في بحر الوجود الذي لا نهاية له. فالعالم بمجموعه متغير أبدًا. وكلٌ متغيرٌ يتبدل تعينُّه مع الآنات. ففي كل آن متعين غير المتعين الذي هو في الآن الآخر، مع أن العين الواحدة التي يطرأ عليها هذه التغيرات هي ذاتها. العين الواحدة هي حقيقة الحق المتعينة بالتعين الأول اللازم بعلمه بذاته. وهي العين الجوهر المعقول الذي قبل هذه الصور المسمّاة “عالمًا”، ومجموع الصور أعراض طارئة متبدلة في كل آن. أما المحجوبون فلا يعرفون ذلك، بل هم في لبس من هذا التجدد الدائم في الكل. وأمَّا أهل الكشف، فإنهم يروْن أنّ الله تعالى يتجلّى في كل نفَس ولا يتكرر التجلّي.[10]

ومن نتائج تجديد الخلق، نواجه الصور المتشابهة دائمًا. ولكن أحدًا من المتشابهين ليس عين الآخر وإن كان بينهما تشابه تام. ومن أعجب الأمور أنه في الترقّي دائمًا ولا يشعر بذلك لِلَطافةِ الحجاب ودقته وتشابهِ الصور مثل قوله تعالى “وأتوا متشابها” وليس هو الواحد عين الآخر، فإنّ الشبيهين عند العارف أنّهما شبيهان، غيران، وصاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد كما يعلم أنّ مدلولَ الأسماء الإلهية، وإن اختلف حقائقها وكثرت،   هي عين واحدة. فهذه كثرة معقولة في واحد العين. ويشاهد العارفون الكثرة في التجلّي عينًا واحدًا أي تكون في التجلّي كثرة مشهودة في عين واحد، كما أن الهيولَى تُؤخذ في حدِّ كل صورة وهي مع كثرة الصور واختلافها تَرجع في الحقيقة إلى جوهر واحد هو هيولاها.[11] من جانب آخر، هو (أي الشيء) يحفظ واحِديتَه الأصلية ونفْسيته من دون ضياع منه. لأنّ كلَّ ما جرى عليه عُيّن له من قِبل عين ثابته من قبل اي منذ الأزل.[12]

ومنطلقًا من كل هذه المذكورات، نتقدَّم خطوةً ونرجع إلى تغشّي الشيء بصورتين. أنّ القاشاني يُشبّه تجديد الخلق بالماء الجاري ويقول: أنّ الفيض الوجوديَّ والنفَس الرحماني دائم السريان الجريان في الأكوان كالماء الجاري في النهر، فإنّه على الاتصال يتجدد على الدوام، فكذلك تعينات الوجود الحق في صورة الأعيان الثابتة قي العلم القديم لا يزال يتجدد على الاتصال، فقد يخلع التعين الأول الوجودي عن بعض الأعيان قي بعض المواضع، ويتصل به الذي يُعقِّبه في موضع آخر. وما ذلك إلا ظهور العين العلميّ في هذا الموضوع واختفائه في الموضع الأول مع كون العين بحاله في العلم وعالم الغيب.[13]

إنّما يوجب البقاءَ غير ما يوجب الفناءَ وفي كلّ آنٍ يُحصِل البقاءَ والفناءَ، فالتجلّي غير مكرر، ويرون أيضًا أنّ كلّ ما يُعطي خلقًا جديدًا ويُذهب بخلق. فذهابه هو الفناء عند التجلّي  الموجب للفناء والبقاء، لَمّا يُعطيه التجلّي الآخر الموجب للبقاء بالخلق الجديد. ولَمّا كان هذا الخلق من جنس ما كان أولًا، التبس على المحجوبين ولم يشعروا التجدد وذهاب ما كان حاصلًا بالفناء في الحق لأنّ كلّ تجلّ يُعطي خلقًا جديدًا ويُبقي في الوجود الحقيقي ما كان حاصلًا. ويَظهر هذا المعنى في النار المشتعلة من الدهن والفتيلة. فإنّه في كلّ آن يدخل منهما شيء في تلك النارية ويتّصف بالصفة النورية، ثمّ تذهب تلك الصورة بصيرورته هواءً. هكذا شأن العالم بأَسره. فإنّه يستمدّ دائمًا من الخزائن الإلهية فيفيض منها ويرجع إليها.[14]

وإذا رجعنا إلى يومنا المعاصر وطبقنا مثال الجامي على مصابيح السوق (أنوار السقاق) فيمكن أن نقول، إذا وقفنا تحت هذه المصابيح، نظنّها تُنوّر من دون انقطاع ولكن إذا كنّا في مسافة بعيدة عنها، نشعر أو نرى أنّها تُنوّر ثمّ تنطفئ ثمّ تُنوّر ثمّ تنطفئ ويبقى هذا التبادل مستمرًّا.

لا بد من القول أنَّ هذا التجدّد في الأشياء ما هو إلا إمداد الحقّ وتجلّياته واصلٌ إلى العالم في كلّ نفَس، وفي التحقيق الأتمّ ما هو إلّا تجلّ واحد، يظهر له بحسب القوابل ومراتبها واستعداداتها تعيّنات، فَيُلْحقه لذلك التعدّد والنعوت المختلفة والأسماء والصفات، لا أنّ الأمر في نفسه متعدِّد، أو وروده طارئٍ ومتجدَّد، وإنّما التقدّم والتأخّر وغيرهما من أحوال الممكنات يوهم التجدّد والطرآن والتقيّد والتغيّر ونحو ذلك، كالحال في التعدّد وإلا فالأمر أجلّ من أن ينحصر في إطلاقٍ أو تقيّد أو إسم أو وصف أو نقصان أو مزيد. وهذا التجلّي الأحديّ المشار إليه ليس غير النور الوجوديّ، ولا يصل من الحق إلى الممكنات بعد الاتصاف بالوجود وقبله غير ذلك. وما سواه فإنّما هو أحكام الممكنات وآثارها تتصل مِن بعضها بالبعض حالُ الظهور بالتجلّي الوجوديّ الوحدانيّ المذكور. ولَمّا لم يكن الوجود ذاتيًّا لسوى الحقّ – بل مستفادًا من تجلّيه – افتقر العالم في بقائه إلى الإمداد الوجوديّ الأحديّ مع الآنات من دون فترة ولا انقطاع. إذ لو انقطع الإمداد المذكور طرفة عين، لفني العالم دفعة واحدة. فالحكم العدميّ أمر لازم للممكن، والوجود عارضٌ له من مُوجده.[15]

هنا تطرأ على الذهن هذه الأسئلة: إنْ كان كلّ شيء يُجدَّد ويُخلق في كل آن إذًا لماذا لا يشعر الإنسان بهذا التجدّد؟ أُجيب على هذا السؤال بما ذكرنا آنفًا:

  • التجلّي الإلهيّ واحد وتامّ أي لا يتجزّأ.
  • ليس فيه علمٌ للناس إلا للعارفين به.
  • إذا نظرنا من وجه الممكنية نرى أنّ التجدّد في العالم سريع جدًّا ولهذا السبب لا يشعر الإنسان به.

4- لا يشعر أحد من جنس الإنسان بالتعيّن الثاني لأنّ بينه وبين ما قبله شبهًا تامًّا وإنما لا يشعر بهذا إلا العالمون به.

والآن، نرجع إلى سؤالنا الذي طرحناه في بداية هذه المقالة: كيف أتى عاصف بعرش بلقيس من بلادها إلى مجلس سليمان(ع)؟

بالنسبة إلى ابن العربي، في كتابه “فصوص الحكم”، فإنّ عاصف لم ينقل عرشَها من هنا إلى ههنا، لأنّه ليس هذا في وسع أحد أن ينقل شيئًا في طرفةِ عين إلى هذا المكان البعيد. وسليمان(ع) ومن في مجلسه ليسوا بمسحورين.[16] إذًا، لا يبقى هنالك إلا سر واحد وهو أنّ لِعاصف الذي يَصفه القرآن الكريم بـ ﴿الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ﴾[17] أي علمٌ في تجدّد أمثال الأشياء، وهو أبقى العرش بعلمه هذا. يعني فُني العرش في بلدة بلقيس وأُبقي بشكلِ ظهوره عند سليمان (ع) وخُلق جديدًا فيه. إنما العجيب في هذا إلا أن يُظهَر العرشُ في الآن الثاني الذي معاقب آن الإفناء، وإظهاره في غير المكان الأول، وهذا حال خارقِ عادةٍ.

هذه الحادثة إذا اعتبرناها نسبة إلى نبيّ (سليمان(ع)) هي معجزةٌ، وإذا اعتبرناها نسبة إلى وليّ (عاصف) هي كرامة، مع أنّ كونها ليس محالًا، وما فيه أيّ تناقضٍ في إطار فكرة تجديد الخلق مع الأنفاس، أو تجدّد أمثال الأشياء. لأنّها – كما في كلّ الأشياء – ما هو إلّا عرش جديد خُلق جديدًا مكان العرش قبله.[18]

لهذا السبب، لما جاءت بلقيس إلى سليمان(ع) وَرَأت عرشها ﴿ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾[19] ولم تقل “هو” بل “كأنّه هو” ليس دليلًا واحدًا على ما قلناه، بل هناك دليل آخر في الآية وهو سؤال سليمان(ع) ﴿أَهَكَذَا عَرْشُكِ؟﴾ وقوله ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا﴾ ولم يقل “أهذا عرشك؟” ومن هذه العبارات ندرك من دون شكّ أنّ العرش الذي عند سليمان(ع) ليس هو العرش الذي تركته بلقيس في بلدتها، وإنما هو عرش شبيه به. وإلّا كيف نوضّح أو نحلّل إتيانَ العرش من مسافة بعيدة في طرفة عين؟ لا حلّ لنا في هذه المسألة إلّا أن نتّبع الشيخ الأكبر، والله أعلم.

 

خلاصة:

 

يعدُّ الشيخ الأكبر ابن العربي من الذين أخذوا بنظرية تجدد أمثال الأشياء، أو   بعبارة أخرى تجديد الخلق مع الأنفاس. وقد أوضح ويوضح هذا الموضوع في كتبه ولاسيما “الفتوحات المكية” و”فصوص الحكم” وغيرهما. ونحن ثبتنا فی مقالتنا هذه أنه يتناول حصولَ او إحضار عرشِ بلقيس من مكان بعيد عند سليمان(ع) – كما مرّت قصته في القرآن الكريم – دليلًا قاطعًا على فكرة تجديد الخلق في فصوص الحكم.

 

 

المصادر:

 

– القرآن الكريم.

– أبو العلى عفيفي، التعليقات على فصوص الحكم، دار إحياء الكتب العربية، 1946.

– داود القيصري ، شرح فصوص الحكم، طهران 1387.

– عبد الرحمان جامي، نقد النصوص، بيروت 2005.

– عبد الرزاق القاشاني، لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام، القاهرة 1996.

– عبد الرزاق القاشاني، شرح فصوص الحكم، مصر 1997.

– محي الدين ابن العربي، فصوص الحكم، بغداد 1989.

Toshihiko, Izutsu “Sürekli Yaratma Kavramı”,  ترجمه إلى التركية: Mustafa Ertek، في İslam Düşüncesi Üzerine Makaleler، اسطنبول 2002.

Toshihiko, Izutsu Fusus’taki Anahtar-Kavramlar,، ترجمه إلى التركية: Ahmed Yüksel Özemre، اسطنبول 1998.

 

 

 

 

[1] _ أنظر: سورة النمل، الآيات 20-44.

[2] – سورة ق، الآية 15.

[3]– محي الدين ابن العربي، فصوص الحكم، بغداد 1989،  ص. 155-156.

[4]– عبد الرزاق القاشاني، لطائف الأعلام في اشارات أهل الإلهام، القاهرة 1996، م. 1، ص. 450.

[5]– ابو العلى عفيفي، التعليقات على فصوص الحكم، دار إحياء الكتب العربية، 1946، ص. 213.

[6] – Izutsu, Toshihiko, Fusus’taki Anahtar-Kavramlar,،  اسطنبول 1998، ص. 293.

[7] – سورة الرحمان، الآية 29.

[8] – داود القيصري ، شرح فصوص الحكم، طهران 1387، ص. 930-931.

[9]– Izutsu, Anahtar-Kavramlar,، ص. 293.

[10] – عبد الرحمان جامى، نقد النصوص، بيروت 2005، ص. 143.

[11] – محي الدين ابن العربي، فصوص الحكم، ص. 124-125.

  [12]- Izutsu, Anahtar-Kavramlar,، ص. 297.

[13] – عبد الرزاق القاشاني، شرح فصوص الحكم، مصر 1997، ص. 321.

[14] – عبد الرحمان جامي، نقد النصوص، ص. 143.

[15] – المصدر نفسه، ص. 143-144.

[16] – Izutsu Anahtar-Kavramlar,، ص. 301.

[17] – سورة النمل، الآية 40.

 [18]- Izutsu Anahtar-Kavramlar,، ص. 301.

 [19] – سورة النمل، الآية 42.

شاهد أيضاً

التديُّن ومقام العرفان   د. إدريس غازي     FacebookTwitterLinkedInPinterestمشاركة عبر البريدطباعة   FacebookTwitterWhatsAppLinkedInارسال ايميل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *